النتيجة هي توقف السيارات والحافلات وورش العمل والمصانع وانقطع الكهرباء لستة عشر ساعة في اليوم، خسرت كوبا 80% من صادراتها ووارداتها، وأصبح الطعام بالكاد يكفي لإطعام الناس، ولذلك بدأ الناس هناك في زراعة أي أرض يمكنهم استغلالها، إن لم يفعلوا سيواجهون الجوع.
خلال عقد من الأزمة الاقتصادية اتخذت كوبا حلولاً كثيرة للنهوض وتحسين مستوى المعيشة، كوبا نموذج للدولة التي واجهت أزمة النفط وهي الأزمة التي ستواجه الجميع عاجلاً أو آجلاً، كوبا كانت مثالاً عملياً لما يمكن فعله تجاه أزمة النفط، يمكن للعالم أن يتعلم من كوبا ليواجه الأزمة القادمة قبل حدوثها فعلياً.
هناك أبجاث كثيرة حول إنتاج النفط ومتى سيتوقف هذا الإنتاج وكم هي المصادر المتوفرة اليوم، وهناك خلاف كبير حول هذه الحقائق وكيف يمكن فهمها، ما يمكن أن نتفق عليه هو أن النفط لن يبقى للأبد فهو مصدر غير متجدد والعالم اليوم يسرع من وتيرة استهلاك النفط، مدن الصين تزدحم بالسيارات بعد ما كان الصينيون يعتمدون على الدراجات الهوائية، الهند أنتجت أرخص سيارة في العالم وإفريقيا بدأت تخرج من أزماتها وبدأ نموها الاقتصادي الذي سيكون كارثة إن كان يتبع النموذج الأمريكي للاستهلاك.
يمكننا أيضاً أن نتفق على تأثير النفط على البيئة وعلى حياتنا التي أصبحت تعتمد بشكل كبير على توفر الطاقة وتوفر وسائل النقل المعتمدة على النفط، أي أزمة نفط ستوقف هذا النمط من الحياة خلال أسابيع قليلة وإن لم نكن مستعدين فقد تحدث كوارث مختلفة تجتمع في وقت واحد، تخيل توقف المستشفيات ومحطات الطاقة وشح الوقود، أي توقف وسائل النقل المعتمدة على النفط.
أزمة النفط لن تأتي فجأة، سينخفض الإنتاج تدريجياً وسترتفع الأسعار تدريجياً والاستهلاك العالمي سيبقى مرتفعاً ما لم تتغير أساليب حياتنا لتعتمد على مصادر طاقة بديلة، وفوق ذلك عدد السكان في العالم يزداد وهذا يعني مزيد من الضغط على مصادر الطاقة.
في كوبا انخفض النفط المستورد من 13 أو 14 طن سنوياً إلى 4 فقط، كان التغيير كبيراً في أسابيع قليلة، علامات الجوع بدأت تظهر في الأطفال دون سن الخامسة، نساء حوامل يعانين من فقر الدم، مواليد أوزانهم دون الوزن الطبيعي، الفرد الكوبي خسر من وزنه في المتوسط 20 باونداً (9 كيلوجرام تقريباً).
في مناخ كوبا الحار انقطاع الكهرباء يعني عدم القدرة على استخدام الثلاجات، وهذا يعني أن على العائلة أن تطبخ ما لديها وتستهلكه لأنهم لا يستطيعون حفظ أي شيء في الثلاجات.
الماء يجب أن ينقل من خلال رافعات يدوية، المصاعد متعطلة فعليهم استخدام السلالم، وفي هذا الجو الحار والرطب يصعب على المرء أن يكون مرتاحاً في يومه وليلته.
النس عليهم انتظار الحافلات العامة لثلاث أو أربع ساعات، في بعض الأحيان تتوقف السيارات والحافلات لعدم توفر الوقود، وإذا توفر قد تتعطل المركبة وتحتاج لقطع غيار غير متوفرة وحتى لو كانت تعمل فإلى أين ستذهب المركبة وليس هناك عمل يمكن إنجازه بدون وقود؟
الحكومة الكوبية استوردت 1.5 مليون دراجة هوائية وصنعت نصف مليون ووزعتها على الناس، كان على الناس التعود على استخدام الدراجات الهوائية في مجتمع لم يعتد الناس فيه استخدامها.
في 1992م شددت الولايات المتحدة حصارها على كوبا، أي سفينة رست في ميناء كوبا تمنع من الدخول للولايات المتحدة لستة أشهر، خلال فترة وجيزة توقف وصول أغذية وأدوية لكوبا بقيمة 715 مليون دولار، بعد سنوات قليلة شدد الحصار أكثر فمنعت الشركات التي تتعامل مع كوبا من العمل في الولايات المتحدة، ولم تستطع كوبا من الاستفادة من الخدمات المالية ورأس المال المتوفر في السوق العالمية.
العملة الكوبية "البيزو" لم تعد لها قيمة كبيرة، لكن في سنوات الأزمة الاقتصادية خصصت الحكومة الكوبية حصصاً من الطعام لكل مواطن وهي الحد الأدنى من الطعام الذي يجب أن يتناوله أي شخص، هذا جنب كوبا الأزمة لكنها لا زالت في وضع حرج، لا بد أن تعتمد على نفسها لكي تنتج المزيد من الطعام وتغير من أسلوب حياتها.
كل شيء تغير في حياة الكوبيين لكن لم يتأثر شيء مثلما تأثر قطاع الزراعة الذي كان يعتمد كثيراً على الآلات التي تعتمد على طاقة النفط، وقد كانت تعتمد على مبيدات حشرية وأسمدة كيميائية وكلها تعتمد على مشتقات النفط، كوبا كانت الدولة الأولى ضمن الدول اللاتينية في مجال تحويل قطاع الزراعة إلى قطاع تصنيع يعتمد بشكل كبير على الآلات.
لكن هذا التصنيع الزراعي لم يلبي كافة احتياجات كوبا حتى قبل الأزمة الاقتصادية، مع بدأ الأزمة الاقتصادية توقف قطاع الزراعة عن العمل، الوقود لم يعد كافياً لتحريك الآلات الضحمة التي تسقي وتحرث وترش المبيدات.
بدأ الناس في تخصيص أي مكان في المدن لزراعة ما يمكنهم زراعته بدون معرفة مسبقة بالزراعة، كثير من الكوبيين يعملون أطباء ومهندسين لكنهم لا يعرفون شيئاً عن الزراعة، لكن هذا لم يمنعهم من التعلم واكتساب الخبرة، كوبا بدأت في التحول للزراعة العضوية.
تمكنت كوبا من تجنب مجاعة باستغلال المساحات المتوفرة في المدن لزراعة الخضروات والفواكه والأعشاب، كانت الأراضي المتوفرة تعاني من مشاكل عدة كوجود الأحجار أو الأعشاب الضارة أو النفايات، تخلصوا من هذه وبدأوا في الزراعة والتعلم من التجارب والأخطاء.
أثناء الأزمة الاقتصادية جاء فريق من خبراء الزراعة من أستراليا وهؤلاء لديهم فلسفة في الزراعة تسمى Permaculture وهي تقوم على أساس محاكاة الطبيعة وتوفير بيئة تجعل الإنسان يعتمد على نفسه بدلاً من الاعتماد على أنظمة التصنيع، فيكون كل شيء طبيعي فلا تستخدم الآلات الضخمة ولا يعتمد على المبيدات والأسمدة الكيميائية.
في 1993م وبمبلغ لا يزيد عن ألف دولار بدأت أول مدرسة لتعليم هذا النوع من الزراعة للكوبيين، ولم تكن هذه المدرسة تعلم الزراعة فقط بل تعلم أهمية المجتمع أو أهمية العمل الجماعي الذي يعود نفعه لصالح الجميع، فمثلاً لو جاء شخص ما يعاني من مرض ما سيساعدونه وسيحضرون الطبيب المختص لعلاجه، الناس يتعاونون ويهتمون بشؤون بعضهم البعض، الزراعة وتقنياتها ليست مهمة بقدر أهمية العلاقات بين الناس، بالتعاون يمكن فعل الكثير.
تغيرت نظرة الكوبيين للزراعة وأصبح المزارعون من أكثر الناس دخلاً في كوبا، هذا عكس الحال في كثير من الدول الأخرى حيث المزارعون هم الأفقر، في كوبا المزارع لديه طعام فلا يحتاج لشراء الكثير منه ويبيع الطعام الذي يحتاجه كل شخص آخر وهكذا يكون لديهم دخل جيد.
50% من احتياجات الناس في المدن تلبيها مزارع المدن، أما في الريف فتلبي المزارع احتياجات الناس بنسبة 80% إلى 100%، المزارع قريبة من المدن والقرى لذلك لا حاجة لطاقة كبيرة لنقل الخضروات والفواكه وهذا يعني تلويث أقل للبيئة، المزارع لا تبعد كثيراً عن الأسواق والمشترين.
قطاع الزراعة يوفر مزيداً من الوظائف للكوبيين وأصبح أساساً للاقتصاد المحلي، الحاجة للأيدي العاملة أمر طبيعي لأن كل شيء يعتمد على جهود الناس.
قبل الأزمة الاقتصادية في كوبا كانت معاهد الأبحاث تدرس أساليب الزراعة العضوية وغير الملوثة للبيئة، وهذا ما ساعد كوبا على اعتماد هذه الطرق على مستوى البلاد خلال سنوات قليلة.
التربة الزراعية في كوبا كانت ملوثة بالأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية، ومن واقع تجربتهم هذه التربة بحاجة من 3 إلى 5 سنوات لكي تعود طبيعية ومنتجة، ولكي يحدث ذلك لا بد من التعاون مع الطبيعة لكي تعود الأرض كما كانت، وإن عادت الأرض طبيعية سيجد الإنسان نفسه الفائدة، فالخضروات والفواكه التي زرعت بطريقة عضوية لا تحوي مواد كيميائية مضرة بالإنسان، هكذا تتحسن صحة الفرد.
لإعادة الأرض كما كانت استخدم الكوبيون السماد العضوي والمبيدات الحشرية الحيوية، وهي عبارة عن بكتيريا تقضي على الحشرات والآفات الضارة، كما استخدموا الأرض لزراعة أكثر من صنف من النباتات في مكان واحد، بعد فترة من الزمن بدأت كوبا في تصدير السماد العضوي والمبيدات الحيوية لدول أمريكا اللاتينية.
كوبا كانت تستهلك 21 ألف طن من المبيدات الكيميائية، اليوم تستهلك فقط ألف طن، وهذا له نتائج إيجابية على البيئة والتربة والصحة.
الحكومة الكوبية وزعت الأراضي على جمعيات من المزارعين أو تعطيها كملكية خاصة لبعض المزارعين، لا ضرائب على الأرض ولا أي تكاليف أخرى بشرط أن تزرع الأرض وتستغل والشرط الثاني أن تعاد الأرض للحكومة متى ما طلبتها، تذكروا أن كوبا دولة شيوعية، لكن ما يحدث في المزارع هو نوع من النظام الرأسمالي، فالمزارع يرزع ويبيع ويكسب رزقه، لا أحد يجبره على توزيع المحصول أو العائد على الآخرين، وفي كوبا المزارع الخاصة هي الأكثر إنتاجية ثم الجمعيات ثم المزارع التابعة للحكومة، الإحساس بملكية الأرض يجعل الناس يحرصون على الإنتاجية.
بعض المزارعين يتبرعون بجزء من المحصول لمراكز رعاية الكبار أو للنساء الحوامل أو للمدارس ويفعلون ذلك مجاناً لأنهم جزء من المجتمع، التحول من التصنيع الزراعي إلى الزراعة العضوية هو تحول كامل في المجتمع الكوبي، الناس أكثر ترابطاً وتعاوناً.
مع انخفاض واردات النفط توقفت الحافلات التي كانت الوسيلة الأساسية للطلاب، لذلك اعتمد نظام غير مركزي للتعليم يوزع مراكز التعليم المدرسية والجامعية في أنحاء البلاد، بدلاً من أن يذهب الطلاب للمدرسة تذهب المدرسة لهم وتكون قريبة من قراهم ومنازلهم بحيث لا يحتاجون لأي وسيلة نقل للوصول لها.
كوبا كانت تملك 3 جامعات الآن 50 جامعة 7 منها في هافانا، الجامعات والمدارس الطبية وزعت على أنحاء البلاد، وأثناء الأزمة الاقتصادية أبقت كوبا التعليم والرعاية الصحية لكل مواطنيها مجاناً ولا زالت تفعل.
الأطباء والممرضون وموظفو الخدمة الاجتماعية يعيشون في القرى والمدن ويمارسون عملهم جزء من المجتمع، واستطاعت كوبا في الأزمة الاقتصادية أن تحافظ على مستوى صحي لمواطنيها أفضل بقليل من المستوى الصحي للمواطن الأمريكي، عدد وفيات المواليد في كوبا هو 6.3 لكل ألف مولود وفي أمريكا 6.5، متوسط عمر المواطن الكوبي يصل إلى 77 عاماً وفي أمريكا 77.4، مع ذلك الفرد الكوبي يستهلك من الطاقة ما يعادل 7 براميل من النفط في العام بينما الأمريكي يستهلك 57 برميلاً!
هذا يدل على أننا نستطيع أن نرفع المستوى المعيشي للناس بدون استهلاك كبير للطاقة، المهم هو الرغبة في فعل ذلك والإرادة.
صحة الكوبيين تتحسن لأنهم الآن يمارسون المشي وركوب الدراجات الهوائية أكثر من قبل، هذا يعني انخفاض مستوى أمراض السكري وضغط الدم وأمراض القلب، وما يأكلونه تغير فهم يعتمدون على الطعام النباتي أكثر وبالتالي يستهلكون دهوناً أقل.
وسائل النقل تغيرت فاضطر الكوبيون لتحويل الشاحنات لحافلات بوضع سقف وكراسي وسلم خلف الشاحنة، وصمموا حافلة يمكنها أن تحمل 300 شخصاً سموها "الجمل" وهي تسمية جميلة حقاً، وفي هافانا والمدن الأخرى السيارات الحكومية يجب أن تتوقف لأي شخص يريد استخدام السيارة، بمعنى آخر سيارة أجرة جماعية، أما القرى والبلدات الصغيرة فقد اعتمدت على الخيول والحمير، واعتمد الناس بشكل عام على الدراجات الهوائية.
ولتقليل مشكلة النقل كان على المدن أن تغير المساحات فتجعل مقر العمل قريباً من المنازل وتوفر مساحات للتسوق وللأنشطة الثقافية قريبة من المناطق السكنية بحيث يمكن لأي مواطن أن يمشي أو يستخدم الدراجة الهوائية لإنجاز أعماله اليومية وهذا ما يجعل المجتمع حياً ومتواصلاً أكثر.
أعتمدت كوبا على مصادر بديلة للطاقة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، الأولوية للمستشفيات والعيادات والمدارس، واستخدموا السخانات الشمسية، أما محطات الطاقة فتحولت للاستخدام الوقود الحيوي الذي يعتمد على قصب السكر.
المشكلة في العالم ليست في مصادر الطاقة بل في العقليات وأسلوب التفكير، النفط الذي احتاج آلاف السنين ليتحول إلى ما هو عليه اليوم استهلكنا معظمه في قرن واحد وهذا لا بد أن يكون له أثر سلبي، نحن بحاجة كمجتمع عالمي لإعادة التفكير في أسلوب حياتنا وإعادة التفكير في ما هو مهم حقاً وما هو غير ضروري، ما هو مهم هو مستوى المعيشة وسعادة الإنسان وهذا يمكن تحقيقه بدون أن يستهلك الإنسان طاقة كبيرة وبدون أن يحتاج لامتلاك الكثير.